ستظل
سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مدى الأجيال والقرون ، وحتى يرث
الله الأرض ومن عليها نبراساً للمسلمين ، يضيء لهم حياتهم وأعمالهم ، فقد
كانت تطبيقاً كريماً لمنهج الله الذي جاء به القرآن الكريم ، ونوراً هادياً
لكل أمة تريد أن تصل إلى الحياة الكريمة على هذه الأرض ..
فحيث
نظرت في وقائع حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته ، وتوجيهاته وتعاليمه ،
تجد المثل الأعلى والقدوة الحسنة ، التي تضيء لك الطريق والحياة ، وتأخذ
بيدك إلى الطمأنينة والسعادة ، وصدق الله تعالى حيث قال: { لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) ..
قال ابن كثير: " هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، في أقواله وأفعاله وأحواله " .
لقد
كانت حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حافلة بالبذل والعطاء، والدروس
والعبر، ووصلت إلينا كاملة بأدق تفاصيلها ، كأنما نرى الرسول ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ونسمعه في مختلف وقائع حياته ، قائمًا ونائماً ، وعابدًا
وقائداً ، وأباً وزوجا ، ومربياً ومعلما .فقد جمع الله له بين الدعوة
والدولة ، والرسالة والقيادة ، والتبليغ والحكم ، وهو ما لم يتحقق لنبي من
قبل ..
وقد
أُعْطِىَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لم يعط رسول سبقه ، فجاء
الأنبياء برسالتهم إلى قومهم ، وبُعِث ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الناس
كافة ، وختمت به رسالات السماء فلا نبي بعده ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إن
مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع
لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وُضِعت هذه
اللبنة ؟، قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين )(البخاري) ..
وقد
أُعْطِىَ الأنبياء معجزات حسية تتناسب مع عصرهم وبيئتهم ، أما النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ فقد أعطى ـ بجانب المعجزات الحسية الكثيرة ـ القرآن
الكريم، المعجزة الباقية الخالدة إلى يوم القيامة ..
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما
من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته
وحيا أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )(البخاري) ..
وتكفل الله بحفظ هذا القرآن ولم يكل حفظه إلى أحد من خلقه كما قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(الحجر:9) .. فلم تنله يد التحريف والتغيير ، بخلاف غيره من الكتب السابقة .
وكرَّم الله تبارك وتعالى أمة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأحل لهم كثيراً مما شُدِّد
على من قبلهم ، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ، ورفع عنهم المؤاخذة
بالخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وحديث النفس ، قال الله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }(الحج: من الآية78) ، وقال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }(البقرة: من الآية185) ، وقال تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }(الأعراف: من الآية157) ..
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )(ابن ماجه) ..
وإذا ذهبنا ننظر ونقطف بعض جوانب الأسوة القدوة في حياته فسنجد عجبا من العجب :
فكان
الحلم والاحتمال ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على المكاره ، صفاتٌ أدبه
الله بها .. وكل حليم قد عُرِفت منه زلة ، وحفظت عنه هَفْوَة ، ولكنه ـ صلى
الله عليه وسلم ـ لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرا ، وعلى إسراف الجاهل إلا
حلما ..
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( ما
خُيِّر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما
لم يكن إثماً ، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه ، وما انتقم رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه في شيء قط , إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها
لله )(البخاري) .
وكان
أعدل الناس وأعفهم ، وأصدقهم لهجة ، وأعظمهم أمانة ، اعترف له بذلك أصحابه
وأعداؤه ، وكان يسمي قبل نبوته " الصادق الأمين " ، ويُتَحاكم إليه في
الجاهلية قبل الإسلام ..
وعن أنس
ـ رضي الله عنه ـ : " كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس وأجود
الناس وأشجع الناس ، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت
فتلقاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ راجعا قد سبقهم إلى الصوت
واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عرى ، والسيف في عنقه وهو يقول : لن تراعوا ، لن تراعوا " .
وقال على
ـ رضي الله عنه ـ : كنا إذا حمى أو اشتد البأس ، واحمرت الحدق ، اتقينا
برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ،
ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو
أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا ..
وعندما وَجَد رجلاً يرتعد بين يديه قال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( هون عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة )(ابن ماجه) ..
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أقبل جلس حيث ينتهي به المجلس ، وكان يمد طرف رداءه لحليمة السعدية لتجلس
عليه ، ويضع وسادته لضيفه ويجلس هو على الأرض ، وكان إذا لقيه أحد من
أصحابه قام معه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف . وإذا لقيه أحد فتناول
يده ناوله إياها ، فلم ينزع يده حتى يكون الآخر هو الذي ينزعها .
وكان
ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد الناس تواضعاً ، وأبعدهم عن الكبر، و نهى عن
القيام له كما يقام للملوك .. يجالس الفقراء ، ويجيب دعوة العبد ، ويجلس في
أصحابه كأحدهم ..
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( خدمت
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء
صنعتُه : لم صنعتَه ؟ ولا لشيء تركتُه : لمَ تركتَه ؟ ، وكان رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ من أحسن الناس خُلُقا ، ولا مسست خزا قط ، ولا حريرا ،
ولا شيئا كان ألين من كف رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا شممت
مسكا قط ، ولا عطرا ، كان أطيب من عرق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )(مسلم)..
وكان أوفى الناس بالعهود ، وأوصلهم للرحم ، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس ، وأحسن
الناس عشرة وأدباً ، وأبعدهم من سيء الأخلاق ، لم يكن فاحشاً ولا متفحشا
ً، ولا لعاناً ولا صخابا ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ..
يزور
المريض ، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك ، ويقف للمرأة العجوز في
الطريق ساعة تحدثه ، وكان يساعد أهله ويؤانسهم ، فإذا جاء موعد الصلاة أسرع
إليها وقال : ( أرحنا بها يا بلال )(أحمد) .
وكان يوجه أصحابه ويعلمهم ، فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )(ابن ماجه) .. ويأمر الصغير باحترام وتوقير الكبير، والكبير برحمة الصغير، فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويوقر كبيرنا )(الترمذي) ..
أمر بالمحافظة على علاقة المسلم بأخيه ، والتعاون معه ، والسعي في مساعدته ، وعدم إيذائه ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس ، من أجل أن ذلك يحزنه )(البخاري)، وقال : ( المسلم
أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في
حاجته ، ومن فرَّج عن مسلم كربة ، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ،
ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة )(البخاري) .
غرس
في أصحابه ـ والمسلمين من بعدهم ـ روح السماحة والعدل والمساواة ، وعلمهم
أن قيمة الإنسان بدينه وعمله ، وليس بحسبه ونسبه وجنسه ، فقال ـ : ( رحم الله رجلا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى )(البخاري) ، وقال : ( يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وايم الله (أقسم بالله) لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )(البخاري) ..
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (يا
أيها الناس : إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ،
ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا
بالتقوى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }(الحجرات: من الآية13) ، ألا هل بلغت ؟ ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فيبلغ الشاهد الغائب )(أحمد) .. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من بطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه )(مسلم) ..
وهكذا
كان هديه وحياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، منهجا ونبراسا للأمة الإسلامية ،
ومخرجاً لها من كل مؤامرات أعدائها ، وسبيلا لسعادتها وأمنها ، وطريقا
لبناء المسلم السوي والمجتمع المثالي ..
ولئن
انتقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جوار ربه ، فإن الله قد حفظ
لنا سنته ، وأبقى سيرته خالدة شاهدة على سمو روحه ، وكمال نفسه ، ورفعة
أخلاقه ، فما على من أراد الاقتداء به إلا مطالعتها والتأسي بها وصدق الله
تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) ..