وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ {87} * الحجر .
القرطـبي :
* اختلف العلماء في السبع المثاني ؛
فقيل الفاتحة ؛ قاله علي بن أبي طالب وأبو هريرة والربيع بن أنس وأبو
العلية والحسن وغيرهم ، وروي عن النبي (ص) من وجوه ثابتة ، من حديث أبيّ بن
كعب وأبي سعيد بن المعلّى ، وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال
رسول الله (ص) "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني" ، قال :
هذا حديث حسن صحيح ، وهذا نص ، وقال الشاعر :
نشدتكم بمنزل القرآن * أم الكتاب السبع من مثاني
وقال ابن عباس : هي السبع الطوال : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة
والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة معا ، إذ ليس بينهما التسمية . روى
النسائي حدثنا علي حجر أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس في قوله عز وجل (سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي)
قال : السبع الطوَل ، وسميت مثاني لأن العبر والأحكام والحدود ثنيت فيها .
وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية الكريمة بمكة، ولم ينزل من الطوّل
شيء إذ ذاك، وأجيب بأن الله تعالى أنزل القرآن إلى السماء الدنيا ثم نزله
منها نجوما (منجماً)، فما أنزله إلى السماء الدنيا فكأنما آتاه محمدا - صلى
الله عليه وسلم - وإن لم ينزل عليه بعد، وممن قال إنها السبع الطوال:
عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد، وقال جرير:
جزى الله الفرزدق حين يمسي * مضيعاً للمفصل والمثاني
وقبل : المثاني القرآن كله ، قال الله تعالى : {....... كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ .......} (23) سورة الزمر،
هذا قول الضحاك وطاؤوس وأبي مالك ، وقاله ابن عباس ، وقيل له مثاني لأن
الأنباء والقصص ثنيت فيه ، وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثى رسول الله (ص) :
فقد كان نورا ساطعا يهتدى به * يخص بتنزيل القرآن المعظم
وقيل:
المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الأمر والنهي والتبشير والإنذار
وضرب الأمثال وتعديد نعم وأنباء قرون, قاله زياد بن أبي مريم. والصحيح
الأول لأنه نص، وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع
من تسمية غيرها بذلك، إلا أنه إذا ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل كان الوقوف عنده.قوله تعالى : { والقرآن العظيم}
فيه إضمار تقديره: وهو أن الفاتحة هي القرآن العظيم لاشتمالها على ما
يتعلق بأصول الإسلام. وقيل: الواو مقحمة، التقدير: ولقد آتيناك سبعا من
المثاني القرآن العظيم، ومنه قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
وقد تقدم عند قوله " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" قوله تعالى: {لاَ
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (88) سورة الحجرفيه مسألتان: - الأولى قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ}
المعنى: قد أغنيتك بالقرآن عما في أيدي الناس، فإنه ليس منا من لم يتغن
بالقرآن، أي ليس منا من رأى أنه ليس يغنى بما عنده من القرآن حتى يطمح بصره
إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى، يقال: إنه وافى سبع قوافل من البصرة
وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البر والطيب والجوهر
وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها
وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى: " ولقد آتيناك سبعاً من المثاني
والقرآن العظيم" أي فهي خير لكم من القوافل السبع، فلا تمدن أعينكم إليها.
ومعنى { أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } أي أمثالا في النعم، أي الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى فهم أزواج.- الثانية: هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوف إلى متاع الدنيا على الدوام، وإقبال العبد على مولاه، ومثله {وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طـهالفخر الرازي: مفاتيح الغيبقوله تعالى :وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ {87} {لاَ
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (88) سورة الحجراعلم أنه تعالى لما صبّر النبي - صلى
الله عليه وسلم - على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل أتبع ذلك بذكر
النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بها، لأن
الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه سهل الصفح والتجاوز.وفي الآية مسألتان: - المسألة الأولى: اعلم أن قوله تعالى {آتَيْنَاكَ سَبْعاً } يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات وأن يكون سبعاً من السور وأن يكون سبعاً من الفوائد، وليس في اللفظ ما يدل على التعيين. وأما المثاني: فهو صيغة جمع، واحده
مثناة، والمثناة: كل شيء يثنى أي يجعل اثنين، من قولك: ثنيت الشيء إذا
عطفته أو ضممت إليه آخر، ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني لأنها
تثنى بالفخذ والعضد، ومثاني الوادي معاطفه.إذا عرفت هذا فنقول: سبعاً من المثاني
مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى، ولا شك أن هذا القدر مجمل ولا
سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل.وللناس فيه أقوال: القول الأول: وهو قول أكثر المفسرين:
أنه فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي
العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، وروي أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قرأ الفاتحة وقال: هي السبع المثاني، رواه أبو هريرة، والسبب
في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنها سبع آيات.- وأما السبب في تسميتها بالمثاني فوجوه: الأول: أنها تثنى في كل صلاة، بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة.الثاني: قال الزجاج: سميت مثاني لأنها يثنى بعدها ما يقرأ معها.الثالث: سميت آيات الفاتحة مثاني، لأنها
قسمت قسمين اثنين، والدليل عليه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ... والحديث
مشهور.الرابع: سميت مثاني لأنها قسمان: ثناء
ودعاء، وأيضاً النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء، والنصف الثاني حق
العبودية وهو الدعاء.الخامس: سميت الفاتحة بالمثاني لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ومرة بالمدينة.السادس: سميت بالمثاني لأن كلماتها
مثناة مثل { الرحمن الرحيم } و {إياك نعبد وإياك نستعين } و { اهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين ..... }.السابع: قال الزجاج: سميت الفاتحة بالمثاني لاشتمالها على الثناء على الله عز وجل وهو حمد الله وتوحيده وملكه.واعلم: أنا إذا حملنا قوله تعالى: {سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي } على سورة الفاتحة فههنا حكمان: -الحكم الأول: نقل القاضي عن أبي بكر
الأصم أنه قال: كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب رأى أنها ليست
من القرآن. وأقول: لعل حجته فيه أن السبع المثاني لما ثبت أنه هو الفاتحة،
ثم إنه تعالى عطف السبع المثاني على القرآن، ولما كان المعطوف مغايراً
للمعطوف عليه وجب أن يكون السبع المثاني غير القرآن، إلا أن هذا يشكل بقوله
تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ .......} (7) سورة الأحزاب ،وكذلك قوله تعالى: { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ .......} البقرة 98.وللخصم أن يجيب بأنه لا يبعد أن يذكر
الكل، ثم يعطف عليه ذكر بعض أجزائه وأقسامه لكونه أشرف الأقسام. أما إذا
ذكر شيء ثم عطف عليه شيء آخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً،
وههنا ذكر السبع المثاني، ثم عطف عليه القرآن العظيم، فوجب حصول المغايرة.والجواب الصحيح: أن بعض الشيء مغاير لمجموعه، فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟- الحكم الثاني: أنه لما كان المراد بقوله تعالى { سبعاً من المثاني } هو الفاتحة، دل على أن هذه السورة أفضل سور القرآن من وجهين:أحدهما: أن إفرادها بالذكر مع كونها جزءاً من أجزاء القرآن، لا بد وأن يكون لاختصاصها بمزيد الشرف والفضيلة.ثانيهما: أنه تعالى لما أنزلها مرتين دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها.وإذا ثبت هذا فنقول: لما رأينا أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - واظب على قراءتها في جميع الصلوات طول عمره،
وما أقام سورة أخرى مقامها في شيء من الصلوات دل على أنه يجب على المكلف أن
يقرأها في الصلاة وأن لا يقيم سائر آيات القرآن مقامها وأن يحترز عن هذا
الإبدال فإن فيه خطراً عظيماً.القول الثاني: في تفسير قوله تعالى { سبعاً من المثاني}
أنها السبع الطوال، وهذا قول ابن عمر وسعيد بن جبير في بعض الروايات
ومجاهد وهي: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال
والتوبة معاً، قالوا: وسميت هذه السور مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال
والعبر ثنيت فيها. وأنكر الربيع هذا القول وقال: هذه الآية مكية، وأكثر
هذه السور السبعة مدنية ، وما نزل شيء منها في مكة ، فكيف يمكن حمل هذه
الآية عليها.وأجاب قوم عن هذا الإشكال بأن الله
تعالى أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا، ثم نزله على نبيه - صلى الله
عليه وسلم - منها منجماً، فلما أنزله إلى السماء الدنيا وحكم بإنزاله عليه،
فهو من جملة ما آتاه، وإن لم ينزل عليه بعد.ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني}
وهذا الكلام إنما يصدق إذا وصل ذلك الشيء إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -
فأما الذي أنزله إلى السماء الدنيا وهو لم يصل بعد إلى محمد - صلى الله
عليه وسلم، فهذا الكلام لا يصدق فيه.وأما قوله بأنه لما حكم الله تعالى
بتنزيله على محمد - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه
فهذا أيضاً ضعيف، لأن إقامة ما لم ينزل عليه مقام المنزل عليه مخالف
للظاهر.القول الثالث: في تفسير السبع المثاني
أنها هي السور التي هي دون الطوال والمئين وفوق المفصل، واختار هذا القول
قوم واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنحيل
وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل. قال الواحدي: والقول في
تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطوال مثاني، وأقول إن صح هذا
التفسير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا غبار عليه وإن لم يصح
فهذا القول مشكل، لأنا بينا أن المسمى بالسبع المثاني يجب أن يكون أفضل من
سائر السور، وأجمعوا على أن هذه السور التي سموها بالمثاني ليست أفضل من
غيرها، فيمتنع حمل السبع المثاني على تلك السور.القول الرابع: أن السبع المثاني هو
القرآن كله، وهو منقول عن ابن عباس في بعض الروايات وعن طاؤوس، قالوا
ودليل هذا القول قوله تعالى {......كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ......} الزمر 23، فوصف كل القرآن بكونه مثاني.ثم اختلف القائلون بهذا القول في أنه ما المراد بالسبع، وما المراد بالمثاني؟أما السبع فذكر فيه وجوهاً:- أحدها: أن القرآن سبعة أسباع- ثانيها: أن القرآن مشتمل على سبعة أنواع من العلوم: التوحيد، النبوة، المعاد، القضاء والقدر، أحوال العالم، القصص، التكاليف.- ثالثها: أنه مشتمل على الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، والنداء، والقسم، والأمثال.وأما وصف كل القرآن بالمثاني، فلأنه كرر
فيه دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف، وهذا القول ضعيف أيضاً لأنه لو كان
المراد بالسبع المثاني القرآن، لكان قوله تعالى {والقرآن العظيم} عطفاً للشيء على نفسه، وذلك غير جائز. وأجيب عنه بأنه إنما حسن إدخال حرف العطف فيه لاختلاف اللفظين كقول الشاعر:إلى المك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
واعلم أن هذا وإن كان جائزا لأجل وروده في هذا البيت إلا أنهم أجمعوا على أن الأصل خلافه.القول الخامس: يجوز أن يكون المراد
بالسبع المثاني: سورة الفاتحة، لأنها سبع آيات، ويكون المراد بالمثاني كل
القرآن ويكون التقدير، ولقد آتيناك سبع آيات هي الفاتحة وهي من جملة
المثاني الذي هو القرآن العظيم، وهذا القول عين الأول والتفاوت ليس إلا
بقليل.لفظ " من " في قوله تعالى {سبعاً من المثاني} قال الزجاج: فيه وجهان؛- أحدها: أن تكون للتبعيض من القرآن، أي ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى وآتيناك القرآن العظيم.- ثانيهما: قال ويجوز أن تكون "من " صلة، والمعنى: آتيناك سبعاُ هي المثاني كما قال تعالى {.......فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ .......} (30) سورة الحـج، والمعنى اجتنبوا الأوثان، لا أن بعضها رجس.أما قوله تعالى: {لا تمدن عينيك إلى ما
متعنا به أزواجاً منهم} فاعلم أن الله تعالى لما عرف رسوله عظم نعمه عليه
فيما يتعلق بالدين، وهو أنه آتاه سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، نهاه عن
الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها.أما قوله {أزواجاً منهم} قال ابن قتيبة: أي أصنافاً من الكفار، والزوج في اللغة: الصنف.ثم قال تعالى {ولا تحزن عليهم} إن لم يؤمنوا فيقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون. والحاصل أن قوله تعالى {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} نهي له عن الالتفات إليهم وأن يحصل لهم في قلبه قدر ووزن.وننوه بعد كل هذا الكلام إلى مسألة لغوية هي في غاية الأهمية لعلم التفسير إن لم تكن هي الأهم:الفروق في اللغة:إن الكثير من الناس يأت الكلام المملوء
حكما ً ونصحاً وطرافة وظرفاً، ولكن ينسى أو يجهل الكثير من معاني الأسماء
والصفات أو معاني الأفعال والحروف، ولذلك يقع في الخطأ من لا يعرف الفرق
بين اسم واسم أو صفة وصفة، أو حين يذكر فعلاً مكان فعل أو يجعل حرفاً مكان
حرف. ولا شك أن هذا يعتبر خللا ً في التعبير وعيباً في الكتابة وخطأ في
الخطابة. وقد ألف العلماء كتباً في الفروق اللغوية، ومن أحسن من ألف في ذلك
الإمام الأديب اللغوي أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري، فقد ألف
سنة 395 هجرية كتاباً في ذلك سماه ( الفروق اللغوية) ذكر فيه أن اختلاف
العبارات والأسماء موجب لاختلاف المعاني في كل لغة فقال " الشاهد على أن
اختلاف العبارات والأسماء يوجب اختلاف المعاني أن الاسم كلمة تدل على معنى
دلالة الإشارة، وإذا أشير إلى الشيء مرة واحدة فعرف، فالإشارة إليه ثانية
وثالثة غير مفيدة، وواضع الكلمة حكيم لا يأتي فيها بما لا يفيد، فإن أشير
منه في الثاني والثالث إلى خلاف ما أشير إليه في الأول كان ذلك صواباً.فهذا يدل على أن كل اسمين يجريان إلى
معنى من المعاني في كل لغة فقال: الشاهد على أن اختلاف العبارات والأسماء
يوجب اختلاف المعاني وعين من الأعيان في لغة واحدة فإن كل واحد منهما يقتضي
خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلا لكان الثاني فضلا لا يحتاج إليه، وإلى هذا
ذهب المحققون من العلماء وإليه أشار المبرد في تفسير قوله تعالى {....... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا .......} (48) سورة المائدة
قال: فعطف شرعة على منهاج، لأن الشرعة أول الشيء والمنهاج لمعظمه ومتسعه،
واستشهد على ذلك بقوله: شرع فلان بكذا إذا ابتدأه، وأنهج البلى في الثوب
إذا اتسع فيه، قال ويعطف الشيء على الشيء وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد إذا
كان في أحدهما خلاف الآخر، فأما إذا أريد بالثاني ما أريد بالأول فعطف
أحدهما على الآخر فهو خطأ لا تقل جاءني زيد وأبو عبدالله إذا كان زيد هو
أبو عبدالله، ولكن مثل قوله: أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وذلك أن المال إذا لم يقيد، فإنما يعنى به الصامت، كذا قال، والنشب ما ينشب ويثبت من العقارات. وكذلك قول الحطيئة:ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها النأي والبعد
وذلك
أن النأي يكون لما ذهب عنك إلى حيث بلغ، وأدنى ذلك يقال له نأي، والبعد
تحقيق الرواح والذهاب إلى الموضع السحيق، والتقدير أتى من دونها النأي الذي
يكون أول البعد، والبعد الذي يكاد يبلغ الغاية.قال أبو هلال، رحمه الله، والذي قاله
ههنا في العطف يدل على أن جميع ما جاء في القرآن وعين العرب من لفظين
جاريين مجرى ما ذكرنا من العقل واللب، والمعرفة والعلم، والكسب والجرح،
والعمل والفعل معطوفاً أحدهما على الآخر فإنما جاز هذا فيهما لما بينهما في
الفرق في المعنى، ولولا ذلك لم يجز عطف زيد على أبي عبيد الله إذا كان هو
هو. قال أبو هلال: ومعلوم أن من حق المعطوف
أن يتناول غير المعطوف عليه ليصح عطف ما عطف به عليه، إلا إذا علم أن
الثاني ذكر تفخيماً، وأفرد عما قبله تعظيماً نحو عطف جبريل وميكال على
الملائكة في قوله تعالى : ( مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ {98}البقرة
. وقال بعض النحويين: لا يجوز أن يدل اللفظ الواحد على معنيين
مختلفين حتى تضاف علامة لكل واحد منهما فإن لم يكن فيه كذلك علامة أشكل
وألبس على المخاطب وليس من الحكمة وضع الأدلة المشكلة إلا أن يدفع إلى ذلك
ضرورة أو علة.وكما لا يجوز أن يدل اللفظ الواحد على
معنيين، فكذلك لا يجوز أن يكون اللفظان يدلان على معنى واحد، لأن في ذلك
تكثيراً للغة بلا فائدة.وانظر إلى أوزان المبالغة مفعل وفعول
وفعال ومفعال، فمن لا يعرف معنى كل لفظة من هذه الألفاظ يظن أن ذلك كله
يفيد المبالغة فقط. وليس الأمر كذلك بل هي مع إفادتها المبالغة تفيد معاني
أخرى، قال المحققون من أهل اللغة إذا كان الرجل عدة للشيء قيل فيه: مفعل
مثل مرحم ومحرب إن جعل عدة للرحمة أو للحرب. وإذا كان قوياً على الفعل
مطيقاً له قيل: فعول مثل صبور وشكور، وإذا فعل الفعل وقتاً بعد وقت قيل:
فعال، مثل حمال وجمال، وإذا كان ذلك عادة له قيل له: مفعال مثل معوان
ومعطاء. وانظر ! إنه إذا كان اختلاف الحركات يوجب اختلاف المعاني فاختلاف
الألفاظ أنفسها أولى أن يكون كذلك، ولهذا المعنى أيضاً قال المحققون من أهل
العربية: إن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض حتى قال ابن درستويه في جواز
تعاقبها إبطال حقيقة اللغة وإفساد الحكمة فيها والقول بخلاف ما يوجبه العقل
والقياس. قال أبو هلال: وذلك أنها إذا تعاقبت
خرجت عن حقائقها، ووضع كل واحد منها بمعنى آخر فأوجب ذلك أن يكونا لفظين
مختلفين لهما معنى واحد فأبى المحققون أن يقولوا بذلك وقال به من لا يتحقق
المعاني.وإليكم مثالاً لنعرف فيه الفرق بين
كلمتين مستعملتين كثيراُ عندنا هي: الحمد والشكر، فالفرق بين الحمد والشكر
أن الشكر هو الاعتراف بالنعمة على جهة التعظيم للمنعم، ولا يصح الشكر إلا
على النعمة، والحمد هو الذكر بالجميل على جهة التعظيم للمحمود، ويصح على
هذه النعمة وغير النعمة، قال تعالى : {وَوَصَّيْنَا
الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا
وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (15)
سورة الأحقاف. فبين أن هذا الشكر مقابل النعمة التي أنعمها الله
تعالى عليه وعلى والديه، وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما
رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) البقرة . وقال تعالى : {فَكُلُواْ
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ
إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (114) سورة النحل. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام (
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ {120} شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ....) {121} النحل ، فبين تعالى أن شكر إبراهيم كان عن نعم أنعم الله تعالى بها عليه، وقال تعالى : (قُلْ
مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ {63} الأنعام، فبين أنهم أقسموا أنه إن أنجاهم الله تعالى من ظلمات البر والبحر يكونوا من الشاكرين، ومثل ذلك قوله تعالى (..... لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {189} الأعراف. وقد يكون الشكر مقابل العفو عن جريمة كما عفا الله تعالى عن بني إسرائيل بعدما عبدوا العجل فقال تعالى : (وَإِذْ
وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن
بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ {51} ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ
ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {52} البقرة . والآيات في ذلك كثيرة.ومن الأحاديث التي تبين أن الشكر يكون
في مقابلة النعمة قوله - صلى الله عليه وسلم - " عجبت من أمر المؤمن إن أمر
المؤمن كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر كان ذلك
خيراً ..." الحديث رواه الإمام أحمد في المسند فجعل - صلى الله عليه وسلم -
الشكر في مقابلة ما يسر الإنسان ورواه الإمام مسلم. وكذا قوله - صلى الله
عليه وسلم - " الطاعم الشاكر كالصائم الصابر" رواه البخاري في الأطعمة،
فجعل - صلى الله عليه وسلم - الشكر مقابل الإطعام، وقوله - صلى الله عليه
وسلم ، " عن تنعم تنعم على شاكر" متفق عليه.ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - "
واجعلنا شاكرين لنعمتك" رواه أبو داود، والأحاديث في ذلك كثيرة مستفيضة،
فعرفنا من هذه الآيات والأحاديث أن الشكر يكون في مقابلة النعمة ويكون
تعظيماً للمشكور واعترافاً بنعمته. أما الحمد فإنه الذكر بالجميل للمحمود
على جهة التعظيم، ويصح أن يكون على نعمة وعلى غير نعمة، فمن الحمد مقابل
النعمة قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا
أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {42} وَنَزَعْنَا
مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ
وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ....) {43} الأعراف ، فجعل الله نعمة الحمد في مقابل هذه النعم الجليلة. وقال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} (39) سورة إبراهيم ، وقال تعالى مخاطباً نوحاً عليه السلام : (فَإِذَا
اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {28} المؤمنون ، وقال تعالى : (وَسِيقَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا
جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ
مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74} الزمر ، وقد يكون الحمد دون مقابل نعمة كقوله تعالى : ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ....) الإسراء 111، وقال تعالى : (
ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً
وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ {75} النحل ، وقال تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.....) غافر7
، فهم يسبحون الله ويحمدونه على جهة التعظيم دون ذكر للنعمة. وفرق آخر بين
الحمد والشكر أن الإنسان قد يحمد نفسه في أمور جميلة طيبة يأتيها فيذكر ما
عمله من كرم أو علم أوشجاعة، ولكن لا يجوز أن يشكر الإنسان نفسه، لأن
الشكر يكون في مقابلة نعمة من إنسان على آخر فهو بمثابة الدين ولا يجوز أن
يكون للإنسان دين على نفسه. فالاعتماد في الشكر على ما توجبه النعمة، وفي
الحمد على ما توجبه الحكمة ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفر، فالشكر
إظهار حق النعمة لقضاء حق المنعم كما أن الكفر تغطية النعمة لإبطال حق
المنعم. ونقول أيضاً: ويمكن أن نضيف شيئاً آخر وهو أن الحمد يكون باللسان
فقط فتقول الحمد لله، والشكر يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح.فإذا كان الوضع هكذا في المسائل اللغوية وأنها دقيقة غاية الدقة بهذا الشكل الذي عرضنا فكيف يأتي مدعي علم ليقول بأن: 1 - واو العطف لا تفيد شيئاً في الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ {87} الحجر
، وأن ليس لها تأثير على المعنى. فكيف والحال هكذا تكون السبع المثاني -
أياً كان المقصود بها - تساوي القرآن العظيم. فبالإضافة إلى أن واو العطف
هذه لا بد أن تفيد المغايرة، أي أن المعطوف عليه لا بد وأن يكون شيئاً آخر
غير المعطوف، أي لا بد وأن تكون السبع المثاني شيئاً مغايراً للقرآن
العظيم، فإنها في ذات الوقت تفيد المصاحبة، أي السبع المثاني هي بالفعل شيء
غير القرآن ولكنها مصاحبة للقرآن في النزول على الرسول ومصاحبة للقرآن
أيضاً في كتابتها وتدوينها في افتتاحيات السور ال 29 في داخل نفس الكتاب (
المصحف ). أما الآيات التي يستشهدون بها لتدل على إمكانية عطف الكل على
الجزء فنقول لهم، أنتم لم تصيبوا في هذه أيضاً لأن الآيات لها معنى آخر غير
ما تعتقدون؛ 1 - الآية (
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم
مِّيثَاقاً غَلِيظاً {7} الأحزاب. هذه الآية لا تعطف على الإطلاق "
نبيين على نبيين " المذكورة أسماؤهم في الآية بل تفرق تفريقاً واضحاً بين
النبيين جميعاً والنبيين الذي هم بصفتهم " الرسل وأولي العزم " منهم، وهم
خمسة: نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد، فهذا ليس عطف شيء على نفسه، وإنما
العطف يفيد توضيح تعظيم قيمة ومقام هؤلاء الخمسة بالذات بين جميع الأنبياء.
2 - الآية ( مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ {98} البقرة
، وهذه الآية أيضاً ليس فيها عطف شيء على نفسه وليس فيه عطف جزء على كل أو
كل على جزء من نفس الشيء، وإن ذكر جبريل وميكال بالذات في الآية وكأنهم
معطوفون على " ملائكته " ليس كما يدعون بل هو إجابة لما ورد في الآية التي
سبقت هذه الآية (قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً
لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ
مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {97}
البقرة . وقد أجمع أهل العلم بالـتأويل على أن الآية نزلت جواباً
لليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكال ولي لهم بسبب أنهم رأوا أن
جبريل ينزل بالحرب والقتال والعذاب. فذكر جبريل وميكال في الآية لا يفيد
العطف على الملائكة وإنما هو تخصيص للإجابة على ادعاءات اليهود. والمعنى:
من كان عدواً لله والملائكة والرسل بوجه عام فإن الله عدو له، وأما يا يهود
معاداتكم لجبريل بالذات أقول من كان عدواً له أيضاً أو لميكال فإن الله
أيضاً عدو لكل من يعاديهما. ومن هذا نرى مدى خطورة التفسير أو التأويل دون
مراعاة لعلم اللغة والنحو، فلا يجوز في علم التفسير إهمال أي علم من العلوم
اللازمة لذلك.3 - من هذا نرى أن القاعدة ليس لها
استثناءات: فلا يجوز عطف الشيء على نفسه ولا يجوز عطف الشيء على جزء منه
ولا يجوز عطف الجزء على الكل، وهذه قاعدة يجب الأخذ بها.ونخلص من كل هذا إلى أن: 1 - سورة الفاتحة لا تصح أن تكون هي السبع المثاني لأنها أولا ليست سبع آيات وليست سبعاً مثناة أي أربعة عشر شيئاً. وثانياً أنها جزء من القرآن ولا يصح بأي حال عطف الشيء على نفسه كما لا يصح عطف الكل على الجزء. وثالثاً يؤكد هذا اختلاف الباحثين فيما
بينهم في تواتر حديث عن الرسول مفاده أن السبع المثاني هي سورة الفاتحة
وإلا لكان الأمر قد حسم ولم يكن ثمة مجال للاجتهاد في ذلك.2 - لا بد من فهم النص فهما صحيحاً:
فإذا قال الله: " سبع مثان " أو " سبع من المثاني " فلا بد وأن يكون الحاصل
هو أربعة عشر وليس سبعاً فقط وإلا حصل فساد في فهمنا لكلام الله3 - وما ينطبق عليه هذا القول بلا أي
تناقض هو افتتاحيات السور والتي أطلقوا عليها خطأ ً " الحروف المقطعة " فهي
14 أي سبعة في اثنين: وهي: 1 - كهيعص 2- ن 3- ق
4- ص 5- طه 6- يس 7- حم عسق 8- حم 9- طس
10- طسم 11- ألم 12- ألمص 13- ألر 14 - ألمر.اشترط في القرآن العظيم عربيته بمقتضى أحد عشر موضعاً في القرآن والآيات هي :
- سورة يوسف : إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {2}
- سورة الرعد :
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن
وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ {37}
- سورة النحل :
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ
لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ {103}
- سورة طه :
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ
الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً {113}
- سورة الشعراء : بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195}
- سورة الزمر : قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {28}
- سورة فصلت : كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {3}
- سورة فصلت :
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
{44}
- سورة الشورى :
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ
الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ {7}
- الزخرف : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {3}
- الأحقاف :
وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ
مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ {12}
بينما لم تشترط عربية السبع
المثاني ولهذا فقد جاءت من لغة أخرى وهي اللغة المصرية. وهذا يتفق مع
الآيات التالية وأسباب نزولها حيث السبع قوافل اليهودية، وقد أثبتنا في
كتابنا " إخناتون أبو الأنبياء " أن يهود الجزيرة العربية كانوا ما يزالون
يتكلمون اللغة المصرية القديمة. فهل هذا محض مصادفة أم برهان على صحة ما
أثبتنا. وتقول آيات سورة الأحقاف :
( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي
وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ {9} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ
اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ {10} الأحقاف . هذه الآيات غاية في روعة التصوير لقضية
في غاية الأهمية لفهم النص القرآني فمعناها: قل يا محمد لهؤلاء المشركين
الكافرين بالقرآن أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به أي ما
ظنكم أن الله صانع بكم، إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله علي
لأبلغكموه، وقد كفرتم به وكذبتموه وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله أي
وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء من قبلي فآمن
هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيقته بينما استكبرتم أنتم عن
اتباعه، وهذه الشهادة تعم عبدالله بن سلام وغيره، .روى مالك عن عامر بن سعد عن أبيه قال:
ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من
أهل الجنة إلا لعبدالله بن سلام، قال وفيه نزلت {....... وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ .......} (10) سورة الأحقاف. فبينما تتكلم كتب التفسير عن شاهد بني
إسرائيل الذي شهد بأن القرآن مثل التوراة نقول له وبكل الجرأة : يا إخواني
لقد أخطأتم في تأويل الآيات أيما خطأ، لأنه إذا كان المعني بشاهد بني
إسرائيل هو عبدالله بن سلام أو غيره فكان لزاماً عليه ليثبت أن القرآن مثل
التوراة أن يخرج لنا توراة غير محرفة وليقول للرسول - صلى الله عليه وسلم -
بأن القرآن مثلها ولكن وللأسف ذلك لم يحدث ولم يخرج لنا لا عبدالله بن
سلام ولا غيره توراة تقر بأن القرآن مثلها وما كان الرسول ليقبل بأن يقرن
القرآن بتوراة قال عنها القرآن بأنها محرفة ومزيفة.لابد وأن يكون عبدالله بن سلام قد أكد
للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن القرآن هو من جنس كتاب آخر سماوي غير
محرف هو صحف إبراهيم وكان عبدالله بن سلام يهودياً إبراهيمياً وكان يهود
الجزيرة يهوداً إبراهيميين وربما ان كان سبب إسلام عبدالله بن سلام هو تلك
الرموز في أوائل السور والتي هي من اللغة المصرية القديمة والتي نعرفها من
الآن فصاعداً على أنها المعجزة الثانية للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -
تحت مسمى السبع المثاني. إذا ً فالسبع المثاني شيء آخر غير سورة الفاتحة وهي شيء آخر غير القرآن وهي سبع مثناة أي مضروبة في 2 ( 7 × 2) = 14 وهي: 1 - كهيعص 2 - ص3 - ق 4 - ن5 - طه 6 - يس7 - طس 8 - طسم9 - حم عسق 10- حم11 - ألم 12 - ألمص13 - ألر 14 - ألمر رغم إسلام عبدالله بن سلام إلا إن
اليهود أو بعضهم أو على الأقل الخاصة من علمائهم علموا ما تدل عليه
افتتاحيات السور ولكنهم وكالعادة قوم بهت لا يعترفون بالحق وتصور لنا آيات
سورة البقرة هؤلاء اليهود أحسن تصوير: (وَإِذَا
لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ
إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ
لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {76}البقرة .ففي مقابل العرب الذين قابلوا هذه
الألغاز في أوائل السور بشيء من السيانية والغرور والتكبر على الرسول - صلى
الله عليه وسلم - حيث اعتقدوا أن افتتاحيات السور هي حروف لغتهم فلم
يريدوا حتى أن يشكروا محمداً - صلى الله عليه وسلم - على تعظيمه لحروف
لغتهم في قرآنه الذي اعتقدوا أنه هو الذي يؤلفه، في مقابل ذلك كان اليهود
يعلمون أن افتتاحيات السور هي من اللغة المصرية التي يتقنها خاصتهم والتي
تنزلت بها رسالة أبيهم إبراهيم, فآثروا أن يصمتوا حتى لا يوفروا الدليل
لليهود وللعرب على صحة الرسالة الإسلامية وأنها من عند الله وما كان الرسول
محمد - صلى الله عليه وسلم - في استطاعة أن يستدعي لغة كهذي وما كان
يعرفها. فآيات سورة البقرة صريحة في هذا الوصف: فهم يخاطبون بعضهم محذرين
من أن يحدثوا المسلمين بما فتح الله به عليهم حتى لا يتخذه المسلمون بعد
ذلك حجة عليهم .