قبور نجوم السماء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير ألأنام ومصباح الظلام وعلى آله وصحبه الكرام
أما بعد :
هاتفني أحد الزملاء يوم الإربعاء الماضي وقال:
نحن ثلاثة من الصحب وأنت رابعنا سنذهب بعد صلاة الظهر غداً إلى منطقة برية قريبة ونتغدى هناك ثم نرجع وأرجو ألا تعتذر.
فلم أتكلم حتى سمعت أحدهم يقول:
قل له رجاءً لا يعتذر في اللحظة الأخيرة.
حينها استحييت ولم أر بداً من الموافقة فقد كثرت اعتذاراتي وكأني المشغول الوحيد من بينهم رغم أن مسؤولياتهم ومشاغلهم تفوقني بمراحل.
صلينا ظهر الأربعاء ثم توجه بنا أميرنا إلى حيث لا نعرف ابتداءً.
سلك بنا طريق الشمال ثم الشرق ثم الشمال الشرقي
وقال:
هذه الجبيلة
وبعد برهة قال:
وهذه العيينة
لا أكتمكم في الطريق حينما مررنا بالجبيلة سمعت لقلبي وجيباً وحنيناً لا أدري كنهه.
وجاوز بنا صاحبنا العيينة إلى وادٍ أظن أن اسمه سدوس كثير الطلح وأرضه سهلة منبسطة مد النظر.
مكثنا هناك وكنا
خير رعيةٍ لخير أمير, فقد تكفل أميرنا بالرحلة من ألفها إلى يائها, ونحن
تكفلنا بالقضاء على كل ما أتى به من طعام وشراب ومفاكهته بأطايب الكلام
ونوادر الأحاديث.
لقد كانت
لحظات ماتعة ونحن نتجاذب أطراف الحديث، فمن فائدة إلى طرفة إلى حكاية ذات
عبرة كلها كانت في مجلس يعز عليك أن تجد مثله هذه الأيام، أصحابٌ أنفسهم
متفقة وقلوبهم مؤتلفة , شيخ أديب وطبيب أريب ورحالة خبير وآخر يتلقف كل
جميل منهم، جمعهم الله في جنات عدن كما جمعهم في جنة من جنان الارض.
حين اصفرت الشمس وآذنت بمغيب زاد وجيب القلب وحنينه فلم أر بداً من البوح لصحبي إذ بان لي ما خفا من حديث الفؤاد وأسراره فقلت:
ياصحبي سمعت أن هاهنا للصحابة قبوراً من أيام حرب الردة زمن أبي بكر الصديق رضي الله عن الصحب أجمعين.
أفلا زرنا المقبرة وسلمنا عليهم فإنها والله أمنية الحياة ومنية القلب منذ زمن والحمد لله أنها أتت على الشرع فلم نرحل لأجلها.
فقال الأمير:
والله لا أعرف شيئاً مما تقول وأظن الوقت لا يسعف.
فقال الشيخ:
أمنية حياته ونيلها ميسور بأذن الله فتحنن فؤاد الأمير حتى رضي أن نذهب ولكنه قال:
لا أعرف أحداً يدلنا.
فأسقط في يدي وأنا أرى الفرصة التي كنت أتمناها منذ زمن تكون كسراب بقيعة وأظلمت الدنيا من حولي حتى رأيت بصيص أمل.
إذ تذكرت صاحباً لي يعود إلى قرية قريبة منهم فهاتفته فاخبرني
-جزي من الخير مالا يطيق-
أن مقبرتهم في الجبيلة ولو سألت أحداً ثمة لأخبرني باليقين.
فغشاني من السرور ما غشاني، وخف صحبي جزاهم الله خيراً لتحقيق ما أحب ويحبون ورأيت في أعينهم من الشوق ضعف ما بي.
وطفقنا بالسيارة ننهب الأرض نهباً
ولو أن لنا سلطان لقلنا للشمس:
بالله رويدك لا تغيبي حتى يدرك الفؤاد صبابته، وتقر العين بمطلوبها.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده **** ولا الصبابة إلا من يعانيها
وقفنا حذاء رجلٍ وسالناه فكان خير دليلٍ شكر الله سعيه, وعبرنا وادي أم الدم وإذ بنا نقف أمام ما كاد نبض القلب أن يقف لأجله:
" مقبرة الصحابة "
بابها موصد
ولكن قلوبنا كانت مشرعة الابواب, صعدنا فوق تبة من الارض تشرف على المقبرة
فنظرنا إلى القبور وتلكم الحصيات الشواهد أن ثمة أنجم قد ورت هنا الثرى.
قبورٌ فيها نجوم السماء التي اهتدت بها الأمة.
"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"
ما أتممنا الدعاء إلا ونداء الحق يتهادى في السماء إلى الأسماع.
غربت الشمس وليتها لم تغرب, لنا نحن وأما تلك النجوم فلعلها تقول رب ارجعني اقتل في سبيلك مرة أخرى.
كان منظراً مهيباً ودرساً بليغاً شاركت كل الحواس في شهوده, أناس تركوا
الولد والتلد, ولم يخشوا في ذات الله الأحد, أي أحد، واظهروا في سبيل ذلك
الجلد.
منةٌ جعلها الله في أعناقنا لهم إلى يوم القيامة.
تخيل أنهم لم يأتوا هذه الأرض ولم تطأها أقدامهم أكان لنا أن نسمع أذان المغرب!!
الله وحده يعلم مالم يكن إذا كان كيف يكون.
حينما يتفكر الإنسان في نفسه ويرى تلك القبور المتكلمة وهي صموت يعود بالحسرة والأسف.
الأعمار هي الأعمار!!
والأجسام هي الأجسام !!
فما الفرق؟!
إنه الفرق الوحيد الذي جعلهم خير الخلق بعد الأنبياء!
إنه الفرق الكبير الذي جعلهم نجوم السماء تسير على الأرض!
إنه شيء وقر في القلب وصدقته الجوارح وكفى به فارق ما بيننا وبينهم!
يموتون تحت شجيرات, ولكن من أجل كلمات حق قامت عليها الأرض والسماوات.
فرضي الله عنهم ورضوا عنه,
وأصبح من علامات الرضا على العبد أن يترضى عليهم,
فاللهم ارض عن عبادك أصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم واجعل لنا فيهم قدوة, وبهم أسوة واجمعنا بهم وبنبيك يوم القيامة واجعلهم لنا قرة.
صلينا المغرب ثمة في مسجد صغير لكنه أنيق وجميل في سكينة وتحفه طمانينة.
وفي الإياب
تحدث شيخنا عن الصحابة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين وأيام حروب
الردة فكان حديثاً كالدرر كيف لا وهو حديث عن أصحاب خير البشر صلى الله
عليه وسلم.
ولقد كنت وقفت قديماً على أبيات من قصيدة لقيس بن الخطيم يصف بها نفراً من
قومه الأوس ويفخر بهم, لا أجد أحداً أحق بالصحابة منه وهذا الفخر لسان
حالنا:
[/size]
رجال متى يدعوا إلى الموت يرقلوا***إليه كإرْقـالِ الجِمَـالِ المَصَاعِـبِ
إذا فزعوا مدوا إلى الليل صارخـاً***كَمَوْجِ الأتـيّ المُزْبِـدِ المُتراكِـبِ
تَرَى قِصَدَ المُرَّانِ تَهْـوي كأنّهـا***تذرع خرصان بأيـدي الشواطـب
صَبَحْنا بها الآطامَ حَـوْلَ مُزاحِـمٍ***قَوَانِسُ أُولـى بَيْضِنـا كالكَواكـبِ
لَوَانّكَ تُلْقي حنظلاً فـوق بَيْضِنـا***تَدَحْرَجَ عَنْ ذي سامِـهِ المُتقـارِبِ
إذا ما فررنا كـان أسـوا فررانـا***صدود الخـدود وازورار المناكـب
صدود الخـدود والقنـا متشاجـر***ولا تبرح الأقدام عنـد التضـارب
إذا قصرت أسيافنا كـان وصلهـا***خطانـا إلى أعدائنـا فنـضـاربِ
أُجالِدُهُمْ يَـوْمَ الحَدِيقـة ِ حاسِـراً***كأنَّ يدي بالسّيفِ مخراقُ لاعـبِ
رضي الله عنهم وأعلى درجتهم.